استوقفني هذا المقال بروعته واحببت نقله اليكم اخوتي الاعضاء
فاتمنى ان ينال اعجابكم لما فيه من جمال الخلق
وداعاً «مسز دورين».. العزيزة جداً.
فريد أحمد حسن
قبل نحو ست سنوات كنت في زيارة إلى بلد الضباب فاقترح علي صديقي البريطاني (من أصل عراقي) أن أزور شمال بريطانيا حيث الحياة مختلفة وحيث الناس غير الناس الذين يعيشون في لندن، وأخبرني أنه على معرفة جيدة بامرأة بريطانية متقدمة في العمر بإمكانه أن يطلب منها أن تستضيفني عدة أيام في بيتها وتسهل لي التنقل والتعرف على مناطق الشمال بما فيها اسكتلندا، فوافقت على الفور وتم بالفعل الترتيب للرحلة بعد ترحيب العجوز بالفكرة.
في الوقت المحدد وفي المكان المتفق عليه كانت السيدة دورين ذات العينين الزرقاوين تنتظرني بصحبة زوجها (كانت في السادسة والسبعين ولكنها في نشاط وحيوية من هم في نصف عمرها)، رحبت بي وزوجها واصطحباني إلى بيتهما حيث يعيشان معا في هدوء ويحرصان على الاستمتاع بما تبقى لهما من أيام في هذه الحياة .
عندما دخلت البيت وبعدما حددت لي غرفتي التي سأقيم فيها أسبوعا (أصرت على ألا تكون الإقامة أقل من أسبوع) أخذتني إلى المطبخ ودلتني على الأماكن التي يمكنني أن أجد فيها ما أشاء من بسكويت وحلويات ومكسرات وقالت لي بإمكانك أن تخدم نفسك ثم أضافت مازحة ''نحن أيضا لدينا من يمكن أن تعتبرهم بدوا '' وكانت تقصد أنها كريمة على عكس كثير من البريطانيين الذين ربما علمتهم صعوبات الحياة أن يكونوا حريصين على ما في أيديهم ولا يضعون البنس في غير موضعه.
وبالفعل كانت دورين كريمة وأصيلة وتحمل كل صفات البدو، فعلى مدى الأسبوع الذي قضيته في بيتها كان هم أن تكون الضيافة على أصولها يشغلها كثيرا فكانت تعبر في كل وقت عن حرصها على أن أكون راضيا عن مستوى الضيافة وأن أتيقن أنها لا تريد مني لا جزاء ولا شكورا إلى درجة أنني كنت أتحايل عليها لأدفع قيمة غداء أو عشاء يجمعنا في مطعم أثناء تنقلنا في الأسواق والمجمعات أو في مناطق الشمال البريطاني الجميلة وفي اسكتلندا التي قصدناها بالقطار في رحلة جميلة رتبت لها هذه المرأة العجوز بمهارة ودقة
خلال وجودي عندها علمت أنها استضافت على مدى السنوات الماضيات الكثير من الطلبة الخليجيين وأنها كانت تحرص على تسهيل الكثير من الأمور لهم، وعلمت أنها استقبلت في بيتها في وقت متأخر من إحدى الليالي مجموعة مكونة من نحو عشرة من الطلبة الخليجيين وأهاليهم وأنها كانت فرحة بهم فلم تتأخر عن ضيافتهم رغم صغر بيتها ورغم ما تعانيه من مشكلات صحية التي منها تحركها برجل نصفها اصطناعية وحوض من البلاستيك وضيق في التنفس ومشاكل صحية أخرى يفرضها التقدم في العمر.
ذات مساء سألتها عما إذا كانت تتحسس من كوني والأصدقاء والطلبة الذين قامت وتقوم باستضافتهم مسلمين فقالت لي بعد صمت خشيت معه أن أكون قد تسببت في إزعاجها بسؤالي أن تكون مسلما أو مسيحيا أو يهوديا أو غير ذلك فهذا شأنك وهو تعبير عن علاقتك بالخالق ليس إلا وأنت في الغالب تكون قد ورثت الديانة من والديك فوجدت نفسك مسلما أو مسيحيا أو يهوديا ومنتميا إلى مذهب بعينه. وقالت نحن جميعنا نؤمن بخالق واحد وهو يستحق العبادة ولكن كل واحد منا يعبده بطريقته وبما يجعله يشعر أنه قد قام بواجب العبادة والاعتراف بحق الخالق عليه وهو في النهاية يأمل أن يجازيه الخالق على عمله بالخلود في جنته. وأضافت أنها وزوجها مسيحيان ولكنهما ينتميان إلى مذهبين مختلفين فيذهبان إلى كنيستين مختلفتين ولكن كل منهما يحترم طريقة الآخر في العبادة.
ثم علمت من صديقي البريطاني (العراقي الأصل) أنها حرصت بناء على ما وفرها لها من معلومات عني أن تكون الغرفة التي سأسكنها خالية من كل ما يمت إلى الكحول بصلة وأنها سألت عن الساعة التي ينبغي أن أستيقظ فيها لصلاة الفجر وتوفر لي الماء في دورة المياه حيث إنها تخلو من صنبور ماء كما هو الحال في كل بيوت الإنجليز.
السيدة العجوز قالت لي في جلسة أخرى إنه من يعتقد أن أتباع ديانته فقط هم الذين سيدخلون الجنة يرتكب خطأ كبيرا فالخالق هو الذي يقرر من يدخل الجنة في الآخرة وليس البشر وهو غفور ورحيم وهو الوحيد الذي يعلم بالنفوس ويعلم ما يفعله كل واحد من البشر وبالتالي هو الوحيد الذي يستطيع أن يقرر من يدخل الجنة ومن يحرم منها وليس نحن.
بعد انتهاء الرحلة عبرت عن أمنيتها أن أزورها مرة أخرى وقالت لي إن بيتها مفتوح لي ولعائلتي في أي وقت وطلبت مني التواصل معها. وهكذا كان، حيث ظللت على اتصال بها منذ ذلك الحين، أهاتفها في مختلف المناسبات التي تخصها مثل الكريسماس وتهاتفني في المناسبات التي تخصني كعيدي رمضان والأضحى ونتبادل بطاقات التهنئة بالطريقة التقليدية عبر البريد .ولأنني لاحظت أنها تأخرت عن الاتصال بي لتهنئتي بعيد الأضحى المبارك الذي احتفلنا به قبل أيام كما تعودت في الأعياد السابقة لذا قدرت أنها مريضة أو أن لديها ما يمنعها من الاتصال فاتصلت بها لكنها لم تكن ترد، فاتصلت بصاحبي ''البريطاني '' أسأله عنها فأخبرني إنها قد توفيت وأنه شارك في مراسم دفنها قبل العيد بأيام ..وأنه حرص على عدم إبلاغي بالخبر كي لا يخرب علي فرحة العيد وقال لي بصوت دافئ ''كانت جميلة وكانت دائمة السؤال عنك''.
وداعا أيتها العزيزة دورين ..وداعا أيتها العزيزة جدا. وداعا أيتها البريطانية الأصل العربية الصفات. وداعا دورين التي لو صار بيننا من يستوعب الآخرين مثلها لأتانا الخير من حيث لا نحتسب.